سرديات
الزاكي عبد الحميد أحمد
*دعوني أبتعد عن هذا الجمال تدريجياً*..
هذا الملك فيصل، رحمه الله، يتوجّه راجلاً متأملاً جمالَ ملتقى النيلين، إلى مقر مؤتمر اللاءات الثلاث، الذي استضافته الخرطوم عام ١٩٦٧..فعلى الرغم من الحاح حراسه عليه لكي يستقل السيارة، آثر الملك أن يمشي على ضفاف النيل، متأمّلاً جمال النيل وأمواجه المتلألئة في ذلك الصباح الخريفي..
كلُّهم؛ ملوكاً ورؤساء وأمراء، وشعراء وكتّاب وصحافيون، احتضنتهم الخرطوم بحميمية أهلها في ذلك الزمن الباهي فقالوا عنها ما قالوا..
أحمد بهاء الدين، احمد حمروش، صلاح حافظ، محمود السعدني، محمد الفيتوري، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، وصباح، وفهد بلان، وشادية، ومحمود المليجي، فائز حلاوة، ونجاة الصغيرة، وتحية كاريوكا وغيرهم كثر، سحرهم ملتقى النيلين بجماله كلٌّ منهم عبّر عن روعة المشهد بطريقته:
*هما نهران في مجرى،*
*تبارك ذلك المجرى،*
*فيمناه على اليسرى*
*ويسراه على اليمنى،*
*وهذا الأزرق العاتي*
*تدفق خالداً حرا،*
*وذاك الأبيض الهادي*
*يضم الأزرق الصدرا*
*فلا الدنيا وما فيها*
*تساوي ملتقي النيلين، في الخرطوم يا سمراء*..
هذا صلاح عبد الصبور يتدفق شعرا حين بهره مقرن النيلين بسحره..
توأمان…
أزرقٌ يأتيك مُعربداً دفّاقاً من أرض النجاشي..
وأبيضٌ يتهادى نحوَك كمقطع شعرٍ طليّ من يوغندا..
ثم يتعانقان هنا..
هذا الملتقى الأسطوري الجمال، لِمَ يحتفي به الآخرون، ونحن نمرُّ به يوماً وراء يوم، مرور الكرام؟..
*مرور الكرام*!
استوقفتني العبارة!
كتبتُها دون تمحيص، وكأن شخصاً أملاها عليّ!
لم ادرِ ما معناها؟ لم أعرف كيف يمرّ الكِرام؟
لم أجد للعبارة ذكراً في *مجمع الأمثال* للميداني..ولكن بسؤالي لمن أثق في علمه عرفتُ أنها ربما أُفترعِت من الآية الكريمة:
*والذين لا يشهدون الزور، وإذا مرّوا باللغو مروا كِراماً* صدق الله العظيم..
أي انهم شرفاء يترفّعون عن اللغو في الكلام..لا يستمعون إليه وإن سمعوه عرضاً، ويترفّعون عن اللغو من الأعمال، فلا يُقبلون عليها..وتوسعةً، يكون المعنى هو مرور الناس على الأشياء دون اهتمام كمرور المؤمنين بما لا يعنيهم..
هل بالفعل يحتفي به الآخرون ونحن نمرُّ به بلا اهتمام؟
أقبلتْ نحوي، وعلى محياها ترتسمُ ابتسامةٌ عريضةٌ..
كوبُ شايٍ في يمناها، وترد التحيةَ، من معارفها الكثر باليسرى، وهي تُقبل نحوي بخطىً واثقة، تتكيءُ على عظمة امبراطورية لا تغيب عنها الشمس ..
الزي القومي السوداني بالجلباب الأبيض والعمامة، يكون ملفتاً للأنظار في المناسبات التي تجمعك بأناس ليسوا من بني جلدتك، كحالي أنا اليوم، بين حضور كثيف، لبّوا دعوةً، وجهها لهم المجلسُ الثقافي البريطاني في مسقط، لحضور حفل افتتاح مقره الجديد، في مدينة السلطان قابوس في العاصمة العمانية مسقط…
كنا ثلاثة أصدقاء، جمعتْنا هوايةٌ مشتركةٌ تمثلت في ارتياد أماكن الكتب، ترويضاً للقلق، الذي يعتري من كان حديث عهد بالاغتراب كحال ثلاثتِنا، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، في العاصمة العمانية…
كانت مكتبةُ المجلس الثقافي البريطاني مليئةً بالكتب من شتى التخصصات، فوجدنا ضالتَنا فيها، حيث كنا نلتقي يوم الأحد من كل أسبوع، لحضور الفيلم الذي دأب المجلس على عرضه في السابعة والنصف مساء ….بعد إنتهاء العرض كنا نستعير كتباً أخرى بعد أن نسلم لأمين المكتبة، الكتب التي استعرناها في المرة الفائتة، وهكذا توثقت العلاقة بيننا وبين هذا الصرح التثقيفي المميز..
ها هي تتهادى نحوي كغيمةٍ تعبرُ الفضاءات بتؤدة ولِين..
ظننتُ في باديء الأمر، أن زيّي القومي، هو ما لفت انتباهَها، فجاءت تسألني من أي بقاع الأرض أكون!..
ولكن بدا لي أن الأمر أكثر من ذلك..!
كان مساءً جميلاً…
وحين يكون الطقسُ صاحياً كما هو الآن، يبدو القمرُ نضِراً ومجلياً..
الغيومُ الشفافةُ ترقص فوقه، وهو يتمايل طرباً لهذا المشهد الفرائحي….
وسط هذا المساء، المفعم بحرارة آتية من تنهدات التراب والأزهار، توقظك مسقط الجميلة من سُباتك المألوف، وترهف حواسَك، وتسوقُك مخفوراً بالياسمين إلى حيث ائتلاق الخيال شعراً ونثراً….
الجمال كلمةٌ لا تقرؤها إلا العيون، هو تلك القوة التي تطالعنا في منظرٍ ما، فتثير فينا انفعالا يستولي على النفس، ويخلق حالةً من النشوةِ والارتياح…إنه “الحياةَ حين تكشفُ عن وجهها” هكذا قال جبران…
لا أدري، لم يشدُّني مهرجانُ الشوقِ إلى النيلِ في بلدي كلّما شاهدتُ جميلاً، حديثاً كان، أم منظراً..
ها هي تقف أمامي،
سيدة ستينية، ذات حضورٍ زيزفونيٍّ آسر..
سلمتْ عليّ بحرارة، بانجليزية حلّقت بي في فضاءات المدرج 102 في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، يوم شرُفْنا بالالتحاق بها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لترسم بانوراما من الشخوص والأصوات: الدكتور محمد عبد الحي، والدكتور علي عبد الله عباس والدكتور الرشيد ومس كوك ود. رمزبورى وويلش وساحرات مكبث وتهويمات هاملت فيما حسبه أمراً إدّا….
ثم يناديك الشعر من اركان تلك القاعة الفخيمة، إلى رياضه حين يتحفك بشوارده البروفيسور عبد الله الطيب وما أن تحلّق في فضاءات الأمثال العربية حتى يأتيك صوت الدكتور الحبر الجهوري وحكايات *دعد* وأخواتها !
وسلمى الخضراء الجيوسي، تلك العالمة الفلسطينية ذات الباع الطويل في الأدب المقارن!
هل يا ترى تعلّمنا من هؤلاء العلماء الثقات كما ينبغي؟
لا! ذلك ان طيش الشباب كان يلهو بنا كماردٍ متعالٍ، فيسحبنا من وقت لآخر بعيدا عن نبع هذا العلم الدفاق..
أيامٌ كانت مفعماتٍ بالجمال، ثم مضت سراعا..
نعم! على الإطلاق إقبالُها نحوي، لم يكن ساذجاً كما توهمت، لتعرف عني شيئا او عن زيي الذي أرتديه..
هي تعرف عني الكثير..
قالت لي –وهي التي زارت أركان الكون الأربعة-إن مشهداً ظل عالقاً في مخيلتها رغم السنوات التي غابت فيها عن ذلك المكان!..
وصفت لي، ولمن حولي، مشهد الغروب عند ملتقى النيلين وصفاً زادني طولا وعرضا وعمقا من الزهو المباح..
قضت السيدة أجمل سنوات عمرها في الخرطوم، حيث رافقت زوجها الذي كان يعمل في شعبة اللغة الإنجليزية، بجامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي…
أنجبت إبنتَها الأولى في مشفى إنجليزي في الخرطوم..هكذا قالت!
إبنتُها هي من دعتها الآن لزيارة مسقط وتقضي معها بعض أجمل فصول السنة في مسقط..
زارت مسقط، لتستمع بجمال درة الخليج في ربيعها، ولكنها حدثتني عن مدينة تراها هي الأجمل:
مدينة يزهو فيها
*”نيلان زرقة وابيضاضا*
*نفرة وازورارا…”*
The location, where the two Niles meet, at sunset, is amazing..indeed it’s a breathtaking beauty!
يا لروعة المشهد حين يتعانق النيلان لحظة الغروب في بلادكم!
من سرداب دهشة الغربة إلى الحضور الزيزفوني الصفي..يا الله!
وإلى دنياوات علي المك، واحمديته الثاوية على بساط الابداع الخالي من التكلف وحديثه، حين الصفاءات، عن صلاح و”نحن والردى”.. وحديث الفصول الأربعة حين تخوص فيك كما لو تنظر إلى عين الشمس أو تقوِّم سهماً، ثم تطل عليك من جديد بالوضاءات والصبح الذي لا يزدريك”..
إنها صبابة الانسان حين يسكنه عشق الوطن وهو عنه ببعض بعضه بعيد..
Does familiarity breed contempt?
هل التعود على الشيء يفقده شيئا من قيمته؟
نعم..وإلا ما الذي يجعلنا نمر على مشهد تعانق النيلين، في بلادنا، دون سواها، مرور الكرام؟