البعاتي
كتب:د.عثمان أبوزيد
صليتُ الجمعة برفقة أمريكي في مسجد بمكة، وكان خطيب المسجد الدكتور عبد العزيز الحربي. فور انتهاء الصلاة، التفت الأخ الأمريكي عليَّ وقال لي: الحمد لله، فهمت الخطبة كاملة لأن هذا الخطيب لغته العربية “نقية جدا”.
ولا عجب فيما قال ـ تبارك الله ـ فالدكتور الحربي هو مؤسس مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية ورئيسه.
طبعًا إمكانات اللغة الفصيحة أكبر من إمكانات العامية في نقل المعنى بدقة وبيان، وعندما تكون الفصحى على لسان أمثال الدكتور الحربي فهي أشد بيانًا ووصولا للمستمع.
مناسبة هذه المقدمة؛ ما أثارته لفظة وردت في مقابلة قناة الجزيرة مع السفير السوداني في ليبيا عندما شبَّه قائد الدعم السريع بـ “البعاتي”. وطلب المذيع المصري توضيح كلمة البعاتي لأنه لم يفهم.
البعاتي بعامية السودانيين هو (البعبع) بالعامية المصرية، وبالإنجليزية (بوقي مان).
لا شك أن استعمال التعابير والألفاظ العامية يُحدث سوء فهم لدى المستمعين، إن كانوا من جنسية أخرى أو من المتعلمين للغة العربية الناطقين بغيرها.
ونحن نستعمل في خطابنا السياسي والإعلامي كثيرًا من هذه التعابير التي تحتاج إلى توضيح.
وفي تقديري أنه في حالة مخاطبة غير السودانيين؛ يحسن عدم استعمال التعابير العامية أو إيراد الأمثال محلية الطابع. قد يعترض على هذا القول معترض فيقول: بأن علينا أن نسعى إلى نشر عاميتنا السودانية وكلماتنا، مثلما يفعل المصريون والخليجيون والشوام.
وجهة نظر معتبرة على كل حال، لكن يبقى الأفضل أن نخاطب الناس باللغة المشتركة وهي العربية الفصيحة المعاصرة. أما إذا كنا نكتب أو نخاطب جمهورًا سودانيًا فلا بأس من استعمال التعابير العامية السودانية.
قرأت يوم أمس للكاتب راشد عبد الرحيم مقالا ختمه بقوله: “نحن على أبواب مرحلة جديدة، وعلى الذين ركبتهم الهواجس ألا يخربوا الموت بالرَّفسِي”.
و(تخريبُ الموت بالرفسي)، تعبير سوداني خالص، وهو قريب من المعنى الذي أراده الشاعر المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العجز أن تموت جبانا.
وأذكر موقفًا من المواقف التي حدث فيها سوء فهم لمراسل غير عربي عندما وقع حادث اغتيال رئيس الوزراء الأردني وصفي التل في فندق شيراتون بالقاهرة سنة 71. لما ألقي القبض على مرتكب الحادث فور إطلاق النار، كان يصيح: قتلته وشربت من دمه! كتب أحد الصحفيين في تقريره الإخباري باللغة الإنجليزية أن القاتل بعد أن أطلق الرصاص على المجني عليه، شرب من دمه.
موقف آخر: كنا في الخرطوم نحضر مؤتمرًا صحفيًا للمدير العام للتوجيه في القوات المسلحة على أيام معركة الأمطار الغزيرة نهاية عام 1996. سأل مندوب وكالة أجنبية: سمعنا هذا الصباح بسقوط مدينة المابان في جنوب السودان، فهل لديكم ما تعلقون به على هذا الخبر، فكان رد المدير العام: ليست هناك مدينة اسمها المابان في جنوب السودان.
طبعًا الرد صحيح فليست هناك مدينة بهذا الاسم لكن توجد منطقة تحمل الاسم، وكانت قد دخلتها القوات المتمردة بالفعل. عاد المندوب الصحفي للسؤال: لكن وكالات الأنباء جميعًا تنقل نبأ سقوط المابان؟ هنا كان الرد الذي لم يتوقعه المندوب: يا أخي كل واحد يسلِّك لينا نتيرب ليه؟!
والتعبير محلي جدًا، مأخوذ من زراعة (السلوكة) وهي آلة زراعية من الخشب يُضغط عليها بالرجل في الأرض لعمل حفرة، ويكون وراء حامل السلوكة شخص آخر (يتيرب) أي يرمي البذور (التيراب) ثم يدفنها.
كان رد المدير العام للتوجيه من باب (التخلص) من السؤال دون الوقوع في محذور، وهذه حيلة يجيدها كثير من العسكريين، وقليل من السياسيين.