عمــــق الأقاصي
بابكر بشير
آفة العنصرية
(1)
أستهل هذا المقال بإقتباس من مقدمة لمقال قديم نشر بعنوان “عروس الجبال مدينة أعياها رهق السنوات” ( الدلنج عروس الجبال أو دلنج سودان كما يحلو لأهلها مناداتها، مدينة تسحرك بجمالها وروعتها، تتنفس ثقافةً وفكراً وأدباً من خلال تاريخها الزاخر بالمدنية و الحضارة، فهي واحدة من المعالم الأزلية البارزة في جبال النوبة “جنوب كرفان” حيث العلم والمعرفة،.
فمعهد الدلنج وحده يشكل مركز إشعاع ثقافى وحضارى، علاوةً على مدارسها العتيقة، حيث خرجت أعلام و قامات سياسية و أدبية و فنية
كبيرة ذاع صيتها في أرجاء وطننا الكبير، على سبيل المثال لا الحصر البروفسير الأمين حمودة، خميس كجو ، كبشور كوكو ، و اللواء م. إبراهيم نايل إيدام، واللواء م. محمد مركزو كوكو ، و الأساتذين عبد القادر سالم، مكي سنادة ، و الزعيمين الراحلين، فلب عباس غبوش، و مكى على بلايل … والقائمة تطول. دلنج سودان صفة لم تلصق بها إعتباطاً، فكم هي طيبة بسماحة وكرم أهلها ، وجمال أخلاق ساكنيها، الذين إمتزج دماءهم الأفريقية بالعربية، حتى خلق منها سحنةً تجسد كل معاني الوحدة والتعايش و المصير الموحد…) إنتهى الإقتباس.
(2)
في غضون الأسابيع القليلة الماضية، تعرضت هذه المدينة إلى هزة إجتماعية عنيفة، كادت أن تعصف بنسيجها الإجتماعى، لولا لطف الله و عنايته، بالتدخلات الحكيمة لحكومتها و لجنتها الأمنية و أعيانها المدنية، لكانت العواقب وخيمة. ما الذي أصاب أهل هذه المدينة الطيبين المتجانسين المتعايشين المتحابين منذ ازمان بعيدة؟ ما هو الخطأ الذي أدى إلى هذا الإختلال حتى أوصل إلى هذا التقاتل بين أهلها على أساس عنصرى بغيض؟
إن ما حدث و يحدث من إزهاق للأرواح وسفك للدماء ونهب و إتلاف للمتلكات، وتهجير و تشريد للسكان بحي “قادرة” و في اليومين الماضيين ليس له تفسير سوى إختلال بنيوي في ديمغرافية المدينة و السلوك حتى أصاب الأخلاق في مقتل أسهم في هبوط قيم الإنسانية السمحة و الأعراف و التقاليد الإجتماعية الموروثة بهذه المنطقة.
(3)
إن المجتمعات الإنسانية القائمة على خلفيات التعدد والتنوع الثقافي و الأثني، يمكن التعامل معها بإدراك و وعى، بحيث يمكن تحويل التناقض إلي تكامل والتصادم إلي تعايش والتعصب إلي تسامح.
إن التنوع والتعدد والإختلاف في الكون كما يشير أهل الإختصاص هو واقع معايش لا يمكن إنكاره فنجد في الأسرة الواحدة إختلافات كبيرة بينها دعك عن المجتمع، لحكمة إلهية جعل الله ذلك، و به ميز الإنسان عن بقية المخلوقات بصفة العقلانية، فمهما إختلفت و تباينت الأفكار و التطلعات القائمة على التنوع في ظل مجتمع متعدد، فإنه في النهاية تخضع الأمور إلى التعقل و العقلانية، لا للتصادم و التناحر.
دعوتنا للأهل في هذه المدينة الجميلة إلى إحكام صوت العقل، بنبذ العنصرية المقيتة إنها لآفة عفى عنها الدهر.
كما سماحة ديننا الإسلام حيث أوضح رسولنا الكريم (دعوها فإنها منتنة) إن المجتمعات المدنية المتحضرة تجاوزت القبلية و الشعبوية، فصارت مجتمعات قائمة على المصلحة المشتركة و المصير الموحد فليس ببعيد ما هو مشاهد في عالمنا الذي صار ينتظم في كتل و تجمعات تهدف إلى تعزيز المصلحة المشتركة.
فكيف إذن يتقاتل مجتمع صغير في دائرة تكاد مغلقة، يتقاتل فيما بينهم. لمصلحة من يكون ذلك و من المستفيد من هذا التناحر و بهذا الموت المجاني و بهكذا تشريد. الدلنج فيها ما فيها من حكماء كثر و هي التي تمتلك مؤسسات رائدة فى المعرفة و التبصير في شؤون العباد كالجامعة و التنظيمات المجتمعية المدنية “الإدارات الأهلية و الجمعيات و الروابط و منظمات المجتمع المدني.. الخ”
بإستطاعة هؤلاء جمعياً تمثيل الدور الإيجابي في تحيد المجتمع من أي إنزلاق من شأنه الوقوع في مصيدة الفتن.