أنماط الشخصية وانفراط العقد وفقاً لوسائل التواصل الاجتماعي
كتب: شرف الدين محمد الحسن
شرف محمد الحسن
قبل 16 عام تقريباً أنتجت لتلفزيون السودان برنامجاً قصيراً اسمه (حدث في السودان)،
فكرة البرنامج تنبع من اسمه، إذ يتناول الأحداث المختلفة التي حدثت في السودان في مثل هذا التاريخ قبل أعوام.
فريق البحث الذي يعمل معي كان يجمع المعلومات من أرشيف الصحف ودار الوثائق إضافة لبعض المراجع والوثائق عن التاريخ السوداني.
أنتجت أكثر من 360 حلقة، ولكن في أكثر من 90% من هذه الحلقات كنت أجد معاناة كبيرة في تغطية الخبر بالصور التي تعبر عن الحدث، إذ لا توجد وثائق بصرية للاحداث السودانية، وحتى الشواهد من المباني التي يرد ذكرها في الحدث وجدنا أغلبها إندثر تماماً، على الرغم من أن أهرامات مروي ومدافن البحراوية وحتى معالم الدفوفة ظلت قائمة لآلاف السنين،،
استخدمت للمعالجة الرسوم الايضاحية وعناوين الصحف القديمة وإعادة التصوير والتمثيل لمعالجة المعادل البصري للحدث.
لكن هذا البرنامج جعلني أقف طويلاً حول شواهد التاريخ السوداني، فهو تاريخ غني بالحكاوي والروايات السمعية التي يتسامر بها الناس ويتعايشون بها اجتماعياً ، ولكن على أرض الواقع تختفي الشواهد.
استنتجت من ذلك ان الذاكرة السودانية ذاكرة سمعية، تطرب لما تسمعه وتنسج حوله خيالاً واسعاً يصور لها الحدث كما تحب أن تراه.
هذا الأمر لم يأتِ من فراغ، فالبيئة السودانية بيئة متناغمة صوتياً ومتحركة سمعياً،، يميز الناس سلوك رفقائهم بالسمع، فيعرفون الشخص من صوته وصوت حركته وايقاع تصرفه.
كما أن إندماج السودانيين مع الاغاني في كل أشكال حياتهم لم يكن لانصراف عن جادتهم وإنما هو تحريك لا ارادي لفطرتهم السمعية في التعامل مع الأشياء بما فيها الوجدان و حتى الدين.
اجتماعياً كان الشخص صاحب الصوت الجهور هو الابرز ، بل هو الأقوى وسط اقرانه لما تمثله دوافع الصوت بالنسبة له من قوة.
ففي كل جلسة للاقران والأصدقاء او حتى أولاد الفريق تجد ان من يتكلم كثيراً وصوته عالياً هو الذي يكون قائداً ومؤثراً في الرأي حتى ولو قل فهمه وعلمه، لكنه يشغل المساحات بصوته وأثره السمعي الاقناعي.
في المقابل كان هناك الصامتون، وهؤلاء كانت تضج دواخلهم بالأصوات العالية ولكن لا تؤهلهم حواسهم الصوتية لاخراج مكنونات دواخلهم المكتومة غصباً.
ومن هؤلاء من هو أكثر علماً وفهماً ومنطقاً من ذوي الأصوات العالية المسيطرين على المجتمع،، كما أن منهم أيضا الضعفاء فكرياً ونفسياً مهزومين داخلياً.
وسط هذا (الزخم) الاجتماعي والتململ الداخلي ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، وكان أبرزها الواتساب والفيسبوك، فكانت أكبر ثورة في تاريخ المجتمع السوداني.
جاءت هذه الوسائل لتحدث ثورة إجتماعية واسعة الأثر في تغيير نمط الشخصية السودانية الذي كان سائداً على مدى قرون من الزمان.
وجد المكتومون صوتياً والمقهورين اجتماعياً – بكل اطيافهم سوى كانوا مثقفين او مضطهدين او حتى يعانون عللاً صحية- وجدوا ضالتهم ليتسيدوا المجالس.
تعالت الأصوات وبرز وسط مجالس التواصل الاجتماعي أفراد لم يكن يتخيل شخص أنهم يستطيعون أن ينطقوا حرفاً.
برزت مواهب في الكتابة والابداع والتعبير والأفكار وسادت مساحة أوسع للاصوات الاجتماعية الافتراضية ،، لكن في المقابل خرج البعض بأسوأ ما لفظتهم الحمم التي تغلي بدواخلهم، فكانت النقاشات العنيفة جداً والالفاظ الخادشة للحياة وفوق كل ذلك ضرراً كان كسر الخاطر وكسر الحاجز التربوي.
هكذا برزت أنماط جديدة للشخصية السودانية، أنماط تستغل تعابير الكتابة والايقونات لاحداث صوتاً عالياً جهورا ازاح كل الأصوات الفيزيائية التي كانت تتسيد الساحة على مدى قرون
جلس الناس خلف الاسوار يمارسون قوة الأسلوب الافتراضي دون أي احتكاك فيزيائي.
لكن بالتأكيد، في حالة مجتمع كالسودان تراص عقده الاجتماعي لمدى قرون على تراتيببة محددة ثم أتى تغير هذا النَظم وانفرط العقد، لذلك كان لابد أن يكون التداعي عنيفاً مؤثراً، والثمن كان غالياً، فأي انفراط للنظام الاجتماعي دون أن تمسك بالخيط الذي يجمع حباته سيكون التفتيت هو النتيجة.
وهذا ما حدث يا سادة.