معركة مايرنو الكبرى
كتب: ياسر المدني
على بعد دقائق معدودة من محل إقامتي في قرية ( حلة إسماعيل ) الواقعة على الضفة الغربية للنيل الأزرق في ( سنار ).
وقعت أكبر ملحمة ربما في تاريخ القوات المسلحة السودانية الحديث وهي معركة ( مايرنو الكبرى ) التي أكد خلالها الجيش بسالة الجندي السوداني الذي واجه حشود كبيرة من عصابات مليشيا الجنجويد في معركة إستمرت منذ الفجر حتى مغيب الشمس ودون توقف وذلك في فجر يوم الخميس الموافق ( ١١ / يوليو ٢٠٢٤ ) عندما إستيقظ سكان مدينة سنار عاصمة السلطنة الزرقاء والقرى المجاورة على أصوات عنيفة إهتزت لها جدران المنازل.
كانت الأصوات مصدرها دوي المدافع المنتشرة حول منطقة ( مايرنو ) و ( ود هاشم ) بينما خرج سكان ( حلة إسماعيل ) إلى الشارع المسفلت وهو الطريق القومي المؤدي إلى ( سنجة ..الدندر ) ويلتف كشارع بديل إلى ولايات الشرق.
ومن خلال الفضاء الواسع الممتد يظهر للأعين ( جبل موية ) رابضاً كالوحش الخرافي حيث بدأ تدوين المدافع مستهدفا عصابات ( آل دقلو ) المتحصنين به ..مما تسبب في إعاقة حركة الشاحنات التي كانت تمر بلا توقف محملة بالبضائع المتنوعة.
بدأت الضربات قوية على الجبل الذي حسبنا أنه سينهار من شدتها ثم ما لبث أن تحول القصف في إتجاه ( سنجة ) ليتحول سريعا إلى المحور الثالث ( مايرنو ) او بالأصح على بعد كيلو مترات من المنطقة التي طالتها قذائف المليشيا مما تسبب في مصرع عدد من الضحايا من بينهم إبن سلطان ( مايرنو ).
وخلال هذه المعركة وبما أننا كنا نطل عليها فقد لاحظنا ان الجيش قد إنتشر بسرعة فائقة مع آلياته القتالية المتنوعة إلى جانب ناقلات الجنود ليبدأ السيطرة على أرض الميدان بحنكة وخبرة..بينما وجد العدو أنه قد تم تضييق الخناق عليه ليشعر قادته أنهم في ورطة حقيقية وان فكرة إقتحام ( سنار ) عنوة من ثلاثة محاور او اكثر ما هي إلا فكرة غير مدروسة وفاشلة ومن الصعب نجاحها لعدد من الأسباب من بينها عدم توفر الخبرة القتالية في الميدان وإعتمادهم فقط على كثافة النيران وكثرة الحشد..نعم شعر قادة التمرد أنهم وقعوا في خطأ كبير وانهم حتى وإن تراجعوا سيفقدون الكثير من عناصرهم .. وهذا ما حدث بالضبط فكلما تراجعوا كلما خسروا وتساقطوا بالمئات صرعى من هول الضربات الساحقة التي لحقت بهم.
وبينما كان الجندي السوداني يقدم اروع الأمثلة في الصبر والثبات والتضحية كان سكان ( حلة إسماعيل ) الذين كانوا على مقربة من المعركة يقدمون هم أيضا اروع الأمثلة في مناصرة الجيش والتأكيد على شعار ..جيش واحد شعب واحد ..وذلك من خلال إنتشارهم في الشارع وهم يهللون ويكبرون لمتحركات الجيش المتقدمة نحو ميدان المعركة ..وكانت النساء يحملن المصاحف ويقرأن سورة ( يس ) بالمبين .. بينما الأطفال يهتفون مع صوت التدوين ثم يواصلون لهوهم البرئ.
وإتضح ان الجيش في ( سنار ) لم يكن يقاتل وحيدا .. لا .. لا لقد كان يقف من خلفه ويشد من أذره الشعب ..ومن اكثر المواقف التي يهتز لها الضمير الإنساني هي دموع النساء وهن يشاهدن جرحى ومصابي الجيش .. كانت دموع المرأة السنارية غالية وهي تروي مع دماء عزيزة سالت .. ارضنا الطيبة.
تعتبر معركة ( مايرنو الكبرى ) هي نهاية أسطورة عصابات ( آل دقلو ) أو المشهورين بالدعامة والجنجويد .. وهي المعركة التي حطمت شعارهم .. جاهزية . سرعة .. حسم ..ليكون في مقابلها جاهزية الجيش وسرعة إنتشار الجيش وحسم المعركة لصالح الجيش الذي ظل يقاتل بضراوة منذ بداية التمرد أعداد ضخمة من مرتزقة دول الجوار ( جيران السوء ) الذين إنضموا إلى المليشيا المتمردة بحثا عن الغنائم ..التي صحبها لأول مرة في تاريخ البشرية عمليات إنتهاكات وسلب ونهب وقتل للأبرياء وتهجير في سابقة لم تحدث من قبل وقد دلت هذه الإنتهاكات على إنعدام التربية والوازع الديني والأخلاقي وسط هذه العصابات إلى جانب الجهل والتبلد العقلي.
وإذا عدنا إلى ( معركة مايرنو الكبرى ) فإنني أحب ذات يوم أن أسلط الضوء عليها بالتفاصيل الدقيقة وأن أستعرض ملامحها الحقيقية من مصادرها الأساسية أي من الرجال الذين تشرفوا بالدفاع عن الوطن في جزء عزيز من أرضه.