غيب وتعال

بروفيسور عبدالله محمد الأمين

 

السواقي النايحة نص الليل
حنين الدنيا ممزوج في بكاها
زي طيورا في الفروع محتارة بتفتش جناها
البيوت والناس بتسأل عن صبية…

السوداني الأصيل وود الناس مهما يزعل من بيئته، ومن الناس حوله فهو بعد ساعة ساعتين يعود لطبيعته الحنونة والودودة ويندم على زعلته… فهو من دون الناس مفطور على الخير والرحمة والرفق حتى بالحيوان، ولو كان الملك بعانخي السوداني حيا لنال جائزة نوبل في الرفق بالحيوان والإنسان معا.

وقد حكى التاريخ أن الملك بعانخي غزا مصر بسبب سوء معاملة المصريين للخيل… ومما لا شك فيه أن من تغضبه القسوة على الحيوان هو إنسان قد بلغ من الرقة والحنية منتهاها.. فهذه رقة حاكم فكيف بالمواطن العادي؟

السوداني يألف ويؤلف،ورغم المحن والابتلاءات تظل الغالبية على فطرتها ونقاوتها لا تغيرها الصدمات..وما زال الناس في الجزيرة يشتاقون للغائبين ويتناقلون داخل البيوت والدكاكين، والشوارع الحكايات التي يجلبها القادمون من الاستارلنك… عن أحوال الأهل والأحباب بديار الملاجي والنزوح… يعتريهم الاشفاق على كبار السن والأطفال خوفا عليهم من الكوليرا وحمى الضنك وانزلاقات السيراميك وبرودة الشتاء.

 

دواخل إنسان الجزيرة هي ذات دواخل ما قبل الحرب ثابتة على مبدأ:
غيب وتعال
تلقانا نحن إيانا نحن
لا غيرتنا ظروف
لا بدلتنا محنة.

ما تنقله لنا كاميرات القنوات من مآسي إخوتنا المطردوين والمجلودين.. والذين أهدرت كرامتهم الإنسانية _ مشاهد تدمي القلوب وتدمع لها العيون.. وما يدعو للفخر أن الجميع ومن بين دموعهم يحمدون الله… فكل سوداني يجسد نفسية الأنبياء محمد ويعقوب وأيوب عليهم السلام في صبرهم على البلاء… وهذه فطرة المؤمن الحق والمؤمن أمره كله خير في حالتي اليسر والعسر.

طال الغياب وكاد الحول يحول على نكبة ديسمبر 2023 والجميع ما بين شاك وباك،لكن المؤمن مفطور على الثقة بالله لذلك يظل فاتحا لأبواب الأمل على مصراعيها.. وغدا يعود أهلنا من المنافي والمهاجر لأرض الجزيرة ويجدون الناس وقد برح بهم الشوق للقياء ويجدونهم قد فاقوا الشوايقة والكردفانيين في الحنين… ناس يا يمه رسلي لي عفوك ينجيني من جور الزمان… وناس يا كردفان مكتول هواك.

 

غير أننا نخشى أن لا يعود البعض حتى بعد استتباب الأمن فقد تجرفهم حياة الرفاهية في مصر وتركيا وهمبريب دول الخليج… من يفكر في العودة للعصر الحجري الذي تقهقرنا له؟ من يفكر في العودة للفتريته وود عكر وأم تكشو والويكاب والعدس بعد أن انقرضت البهائم؟

ومن تلك المرأة التي تفكر بالعودة للتكل والعواسة بعد أن تعايشت وتكيفت مع مكيفات الاسبليت صيفا والدفايات شتاء؟ وعلى الرغم من أغنية:(الغريب عن وطنه مهما طال غيابه.. مصيره يعود تاني لأهله وصحابه) إلا أنه في ظل التحولات والنقلة الحضارية الهائلة فمن المستبعد عودة بعض الناس عودة طوعية باسم الحنين للوطن… ومثل هؤلاء لن يعودوا إلا بالكشات…

“لكني قبل أنساك.. يا نسمة عندي سؤال وين الهوى الجواك.. الكان زمان بيفوح؟
ما قلتي جمر الشوق حارق حشاكي أنين..
كيف الحشا المحروق يرضى البعاد والبين؟
وللا يعني نويت تسيبنا
في الخريف تحرم غمامك
جينا بعد الفرقة نسأل
جينا نلقى محنة عندك
نحكي ليك عن ليل شقانا
وعن متاهات نجومه بعدك
كنا قايلين بي ورانا
إنت زينا طاري ديمة
كنا قايلين نحن عندك
زي عيونك لينا قيمة
تطرى ناس فاقدين عيونك
بي وراك ما خلوا غربة”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى