“الله فوق مدني”

أ. د. عبدالله محمد الأمين

حينما كنا  صغارا ومعرفتنا محدودة عن العالم من حولنا كنا نغني لمدني باعتبارها مركز الكون، كنا نغني:

الله فوق مدني
يا شباب مدني
مدني بعيييدة علي
بمشيها بي كرعي
الله فوق مدني

وكنت استغرب حينما استمع لتلميذات مدرسة البنات وهن يرددن في الاحتفالات منلوج:
أحيااا متين أزور الخرطوم
في الخرطوم قالوا البت بسوقها عريسا.

 

وعلى الرغم من أنني تعرفت على الخرطوم قبل مدني بسنوات كثيرة إلا أنني ظللت مشدودا لمدني، وقد شحذ أستاذنا حامد مكاوي مخيلتنا بحديثه عن مدرسة حنتوب وإنه أي طالب ما بقرأ حنتوب ما قرأ… فأخذت حديثه مأخذ الجد ومع المذاكرة والاجتهاد ظللت أدعو عقب الصلوات بدعاء بسيط: يا الله إن شاء الله أخش حنتوب… وحينما مرضت عقب أمتحان الثانوي العام اعتبرت الأسرة مرضي عين وبحكم علاقة الأسرة باليعقوباب فقد أرسلوني إلى الدنيقيلة جنوب الحاج عبدالله ومكثت بها شهرين ومع استمراري في الدعاء بأن أخش حنتوب فقد طلبت من الشيخ بهاء الدين عليه الرحمة أن يدعو لي بأن أخش حنتوب….. والحق يقال فقد كنت الوحيد الذي تم قبوله بمدرسة حنتوب من مدارس المنطقة كلها ذلك العام على الرغم من أن هناك زميلين أو ثلاثة أحرزوا مجموعا أكبر مني.. وعلى ما يبدو أنني كنت مجاب الدعاء قبل أن أدخل الجامعة وأصاحب ناس حزب الأمة والكيزان والوهابية.

ثم كان أن ذهبت للمدرسة وقد طلبت المدرسة احضار تقرير طبي للنظر في إمكان علاجي بمصر… وأحالني طبيب مدني إلى طبيبي المعالج بمستشفى بحري الذي أكد أن الحالة عادية ويمكن المتابعة معه فظللت متابعا معه وتغيبت أكثر من شهرين فأرسلت خطابا لمدير المدرسة شارحا له الوضع فكتب لي ردا رقيقا ذكر لي فيه أن أواصل العلاج وأن أعود للمدرسة في أي وقت… وعلى ذلك جمدت العام الدراسي وظللت متحركا بين بحري والشجرة الحماداب لمقابلة الطبيب مرة في الاسبوع.. وباقي الأسبوع أقضيه في قراءة الجرايد والدوحة والعربي حتى تحولت إلى مدمن قراية وكان عمري حينها في حدود ال15 عام.

حينما عدت لحنتوب العام التالي لحق بي الأخوين ابراهيم كساب وفيصل اسحق من ذات مدرستنا مناقزا… وأقمت بداخلية الزبير وبحكم جوار مدني لحنتوب ووجود رفاس المدرسة وهو البنطون فقد كان التنقل سهلا… كنا نذهب للسوق أيام الخميس إذا أردنا الذهاب للقرية حيث مواصلات الحصاحيصا بالسوق الصغير ومن الحصاحيصا لشرفت.. وربما نذهب للسينما مرة مرة،مرة لكن تجربتنا مع السينما مريرة حيث ذهبنا في أول اسبوع لنا بالمدرسة، وحينما عدنا للرفاس كان عددنا كبيرا فامتلأ الرفاس وتحرك عم عبدو تاركا البقية في القيف أو الوحل.. فغضب الطلاب وصاروا يقذفون العربات بالطوب في شارع النيل فاضطرت الشرطة لتوصيلنا بعربتها.. ومن ديك تبنا باعتبارنا قرويين لا قدرة لنا على الشيطنة وللمدرسة لوائحها ونظمها… لذلك اقتصر ذهابنا لشارع الجمهورية حيث المكتبات وربما السوق الكبير إن ذهبنا بالبرينسات.

وظلت معرفتي بمدني ناقصة طيلة فترة دراستنا بحنتوب ولا تتعدى شارع النيل والجمهورية والسوقين الكبير والصغير… والجامع الكبير وحي الدباغة الذي تمر به مواصلات حنتوب… والحق يقال كانت مدني في بداية الثمانينات تتراءى لي عادية جدا ولا تستحق تعب حلقومنا بالغناء لها، الله فوق مدني.. وآمنت بغناء بناتنا… أحياااا متين أزور الخرطوم… فكنت أنتظر الإجازة بفارغ الصبر لأذهب لخالي شيخ الدين رحمة الله عليه… وأشبع قراية… الدوحة والعربي والفيصل والشاهد وصباح الخير وروز اليوسف وجريدة اللواء الإسلامي التابعة لأخوان مصر وكنت أقرأ افتتاحية المرحوم عمر التلمساني رئيس التحرير وأتمطق…. وكان عمر قد جرس السادات حينما هاجم السادات الأخوان بالأسكندرية وذكر عمر التلمساني مع المحلاوي الذي قال عنه:(أهو مرمي في السجن زي الكلب)، فوقف عمر وقال له: أشكوك إلى الله.. فجعل السادات يقول: أسحبها يا عمر…. وينط لينا كوز من المؤلفة قلوبهم ليضمنا لكفار قريش وقد قرينا فكر الأخوان وبالأخص سيد قطب ونحن صبية بحنتوب لكن حكاية الانتماء للتنظيم لنقوم بدور الهتيفة أو تركيب الصيوان وترتيب الكراسي ما بتنفع مع أبناء المزارعية الطموحين.

كان عمنا المرحوم مصطفى عامل البوستة بالمدرسة يجلب لنا الخطابات ويجلب لنا المجلات خاصة الدوحة والعربي وكنا نقرأ لدكتور ابراهيم النوش ولبروف عبدالله الطيب: الفتنة بالشاعر إليوت خطر على الأدب العربي… ونقرأ للنور عثمان أبكر ومحمد عثمان كجراي… وعبدالمحسن صالح.. ورجاء النقاش وتابعنا حالة أمل دنقل بالمستشفى بتوتر عال… كنا نقرأ ونفهم ونحن طلاب ثانوي ويجيك القراي ليحدثك أن بعض سور القرآن تخيف التلاميذ…

الله فوق مدني…
يا شباب مدني…

في العام 1993 انقلبت حياتي وقدر الله لي العودة لمدني لأعمل بجامعة الجزيرة وكنت حينها أعمل برئاسة وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية وسجلت للماجستير بجامعة الخرطوم وكان معي تمهيدي ماجستير من آداب الإسلامية وحينما تجرجر القسم في إجازة الخطط التي أقدمها لكتابة الرسالة لفترة عامين بحجة صعوبة الموضوعات التي أقدمها أخذت معي خطة بحث: الاستشراق في السيرة النبوية واصطحبت معي زميلي بالمكتب وذهبنا لمقابلة مجلس أبحاث كلية الاداب الذي وجهنا لمقابلة د. ابراهيم محمد زين رئيس القسم وهو بدوره طلب مني مقابلة د. التجاني عبدالقادر حامد للموافقة على الإشراف وحينما قرأ الخطة خاطب القسم بموافقته… وفي ظرف اسبوع أجيزت الخطة وطلبت مني كلية الدراسات العليا الشروع في كتابة الرسالة.

حضرت للجامعة بالنشيشيبة يوم 24/4/1993 وقابلت عميد معهد معهد اسلامية المعرفة د. محمد الحسن بريمة(البروف فيما بعد) الذي رحب بي وطلب مني مقابلة شئون العاملين لاكمال اجراءات التعيين م. باحث فقابلتهم واستلمت استمارة وقابلت القمسيون الطبي ثم رجعت لهم وأكملوا اجراءاتهم وبعدها عدت لمقابلة العميد الذي أذن لي بالتفرغ لكتابة الرسالة وأن أحضر أول كل شهر لصرف المرتب…والحق يقال لم يكن لي سابق معرفة بالدكتور محمد الحسن بريمة وحينما قابلته بمكتبه تذكرت أنه الدكتور الذي سألني في المعاينة التي أجرتها لنا الجامعة في اكتوبر 1992 وكان عدد المتقدمين 19 شخص قبلوا منهم أثنين، أنا والأستاذة أمل عبدالعزيز، ولأن الزمن كان زمن كيزان فقد سألني أحد المتقدمين:(واسطتك منو؟) فقلت له:(الله)، وحينما دخلت المعاينة لم أكن أعرف المدير من العميد وقد كانت اللجنة ودودة غير واحد أقلقني بنظراته المباشرة وأفتكرته أحد الأمنجية واتضح لي في ما بعد أنه الحبيب محمود كنانة مدير شئون العاملين عليه الرحمة…والحق يقال فإن وجود د. بريمة على رأس إدارة المعهد قد منح الكثيرين من أولاد الغبش المجتهدين وغير المنظمين في الحركة الإسلامية الفرصة ليصعدوا ومنح جامعة الجزيرة مصداقيتها في التعيينات عكس تلك الجامعات التي طلبت التزكية من مكتب الترابي بالمؤتمر الشعبي العربي الاسلامي، أو تلك الجامعات التي جعلت المناصب لقبيلة أو قبيلتين.

بعد مقابلة العميد ذهبت من فوري للوزارة وقدمت استقالتي وشرعت بعدها في القراءة بمكتبة الشنقيطي بالجامعة وكنت أدخل المكتبة 8 صباح وأخرج منها 5 مساء وكان مشرفي د. التجاني يحضر الأمسيات للمكتبة ويحذرني من إنهاك نفسي.. وفي ظرف 5 شهور أنتهيت من كتابة الرسالة وفي ظرف شهر قرأها المشرف وعدت في نهاية أكتوبر لمدني نهائيا وانغمست في طباعة الرسالة بالمعهد والترتيب مع الأخوين د. بريمة والأخ أ. عبدالرحمن محمد ادم مسجل المعهد لندوة نحو برنامج للبحث العلمي في إسلام العلوم والتي أقيمت بقاعة الصداقة في أبريل 1994 كما شرعت في تأسيس إدارة البحوث والاتصال للقيام بالمهام.

كان سكني باستراحة النشيشيبة ومعي الأساتذة التقي محمد يوسف وشقيقه يوسف وعبدالمنعم جعفر و ابراهيم تارتي وأحمد القرشي وبعدها أسكنونا إحدى الداخليات فانفتحنا على أحياء الأندلس والدباغة وكنا نذهب سويا للعشاء بالدباغة ودخول السينما قبل أن نظفر بذات الدين ونتعمق في دنيا الشيوخ.

وصادقنا الكثير من أهل الدباغة والأندلس وغالب أهل الدباغة من أهلنا الهوسا وهم قوم إن أحبوك وضعوك في حدقات العيون وإن غضبوا منك لم يأذوك ولكل قاعدة شواذ.. لذلك لا غرو أن تجدني حائم في الدباغة زائرا للأصحاب أو مستروحا في كافتريا أولاد القضارف وأقاشي الشايقي…. ثم ظهر أولاد مدني بالمعهد ياسر عبداللطيف ووائل الأمين وضياء يوسف وخوجلي وعلاء وجمال وخالد وفوزية وأماني وفائزة وأماني ورجاء وأنسام وغادة ورحاب وفهيمة وعبدالعزيز وقاسم وعبدالحليم موسى.. وهم من أحياء شتى… بركات.. عووضة، أركويت، مارنجان، مايو بأنواعها… دردق، العشير، ناصر، القسم الأول، أم سويقو، البيان، وذلك قبل انتقالنا لمبنى المعهد في حنتوب العام 2000 حيث أتى الطيب مختار وبابكر وندى وداليا وشذى والتاج وصباح وكمال والرشيد وخالد المراجع وعبدالحليم يوسف وناجي ومجموعة كبيرة من العمال والخالات… من حنتوب والتكيلات والانقاذ… كما ربطتني علاقات صداقة بالزملاء والزميلات الأساتذة والموظفين من الكليات والمعاهد الأخرى بعضهم مقيم بالأحياء الراقية وإن كانت أخلاق إنسان مدني متشابهة وتتسم بالبساطة..

هذه العلاقات أتاحت لي الغوص في روح ود مدني وهي روح شفيفة، لطيفة وتأكدت من ذلك بعد تورطي بالزواج والاقامة بأحياء العشير والمدنيين والمزاد جنوب وحنتوب، حيث السمة الغالبة على البيوت وناسها البساطة والطيبة.. والتعرف على ناس مدني والدخول فيهم سهل فالمجتمع فيها لا يعرف التكلف، وحينما تصاحب إنسانا منهم فعائلته كلها تصير صاحبا لك… وأميز ما يميز مدني هو درجة الأمان فيها وذلك قبل أن يتسرب لها النازحون بعد ضربة الخرطوم… فكان يمكنك السير راجلا من القسم الأول وحتى النشيشيبة لا تخاف على نفسك ومالك.

كانت غالب زياراتي للأخوين د. علاء الدين بأم سويقو.. وبروف جمال بالقسم الأول والطيب ببركات وياسر عبداللطيف بناصر وبابكر بعووضه و د. محمد حمد وناجي بالأندلس و د. الزين بالمنيرة ومحمد الأمين بله بدردق ، والدكاترة صالح معلا وصالح نورين وقاسم وقيس وأساتذة كلية التربية من المقيمين بمجمع حنتوب والذي سكنت فيه الفترة من 95 وحتى 1999..وظللت مواصلا للأصحاب بحنتوب الحلة أولاد الصقري وعوض العجب ومحمد سليم …وكنت حينما أريد زيارة الزميلات أصطحب معي د. علاء نظام المحرم وكدة… ولا أصطحب د. جمال إلا نادرا حيث إنه وناس وبضيع علي هدفي من الزيارة.

أما طق الحنك الدقاق فقد كان ذلك حكرا على الأخوين ب. جمال و د. علاء بشارع النيل أو النيافة أو الشايقي بالدباغة…. وكانت أحلى فترة حينما أقمت قريبا منهم في العشير والمدنيين….. وكنت حينما أذهب للصلاة معهم بجامع الحكومة الذي أسسه شيخ عبدالله محمد الأمين أضحك وأقول: مدني فيها اتنين عبدالله محمد الأمين واحد شيخ وواحد بروف فهنئا لمدني.

وفي الفترة بين نهاية عام 2000 وبداية 2002 أقمنا أنا و د. عبدالحليم موسى (البروف حاليا) بعمارة من شقتين بحي المزاد جنوب وكان برنامجنا بحي المزاد كله صلاة في مسجد حي الدرجة لذلك لم أتعرف إلا على ناس الجامع وسيد الدكان….. ثم رحلت لحي النشيشيبة في العام 2002 ولحق بنا د. محمد بابكر (البروف حاليا) وكثيرا ما نخرج سويا للمعهد والزيارات.

وكنت قبل ذلك أزورهم بفداسي حيث أسرة د. أبوبكر محمدأحمد والأعمام الأساتذة بابكر العوض وبابكر الدرديري الذي كان عميد آداب الإسلامية وأجرى لي معاينة القبول… وبابكر مساعد وشيخ العاقب ويوسف الفضل والمصباح. ويوسف عبدالله وفي المناسبات أولاد الوالي وبروف مبارك المجذوب وأخوانه… وكان قبل حضور بروف محمد للنشيشيبة أتحرك مع المرحوم د.يوسف البشير ودكتور فاروق والمقدم موسى قائد الحرس وكانت بينا ريدة شديدة ثم جاء ناس د.موسى الطيب والمرحوم محمد العاقب والطيب مكي ورضوان ومنصور بانقا وعاصم والمهندس مصطفى وجميع سكان حي النشيشيبة وأحالوا حياتنا بمدني لقطعة سكر…هذا بالاضافة لسكن شقيقي عبدالرحمن وأولاده بمدني ونسابته أسرة المرحوم أ.الريح الشيخ عبدالله بحي ودكنان شرق وكانت هناك أسرة تلميذتي د.آلاء الناير بحي ود كنان غرب والتي تزوجها صاحبنا د.سيف الدولة. وكذلك شقيقتي الزيارة وأولادها بحي المنيرة… وكان هناك صاحبنا بروف ميرغني وبيته قريب لدار الحركة الاسلامية…. وخالتنا بروف زينب كساب بالاعدادية..

ثم زادت العلاقات مع أولاد دفعتي بحنتوب بعد تأسيس القروب فانفتحنا على حي المطار حيث يقيم السيف وتوجهنا للقرى المحيطة أبوحراز والقريقريب والسوريبة وود المهيدي.

مدني المدينة… الحبيبة الشاربة من بحر الخجل… مدينة بسيطة بساطة إنسانها،ودودة وداد من عرفناهم من أهلها… مدني جامعة الجزيرة… والجامعة الأهلية وأساتذتها كنوز المعرفة… العلماء المتواضعون الذين عايشناهم فتعلمنا منهم العطاء بلا حدود والتواضع….. مدني، بروف مبارك، بروف اسماعيل، بروف الأمين الخليفة، بروف وراق، بروف مدثر، بروف أبو سالمه، بروف حيدر الزراعة وحيدر الطب، وبروف حبور، وبروف ميرغني، وبروف عثمان خلف الله، وبروف بريمة، وبروف يوسف، وبروف تاج الأصفياء، وبروف عثمان طه، وبروف السنوسي، وبروف البوشي، وبروف القرشي، وبروف الفاتح…. وغيرهم كثر…. ومدني مهما نصفها فلن نفيها حقها….. وكما قال خضر بشير:
يا زولي الأوصفوك
هم ما أنصفوك.

جاءها ايلا فجملها وزينها وتركها عروسا فخلف من بعده خلف أحالوها إلى كوشة وشوهوا حوائط مبانيها بالبذاءات ثم باعوها بدراهم معدودة…. وما زال الناس يحنون إليها…..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى