يا حليلو شال أفراحنا
بروفيسور عبدالله محمد الأمين
” فأما اليوم فقد ذهب صفو الزمان وبقى كدره ،فالموت اليوم تحفة لكل مسلم ،كأن الخير أصبح خاملا والشر أصبح ناظرا ،وكأن الغبي أصبح ضاحكا والرشيد باكيا ،وكأن العدل أصبح غائرا وأصبح الجور غالبا ،وكأن العقل أصبح مدفوعا والجهل منشورا ،وكأن اللؤم أصبح باسقا والكرم خاويا ،وكأن الود أصبح مقطوعا والبغضاء موصولة ،وكأن الكرامة قد سلبت من الصالحين وتوخى بها الأشرار،وكأن الخب أصبح مستيقظا والوفاء نائما .وكأن الكذب أصبح مثمرا والصدق ماحلا .وكأن الأشرار أصبحوا يسامون السماء وأصبح الأخيار يردون بطن الأرض”أبوبكر الطرطوشي : سراج الملوك.
كتب الطرطوشي هذا الكلام قبل أقل من ألف عام هجري وما زال الوضع يتحرك نحو الأسوأ…وما زالت احباطات المثقفين تتزايد…وجيفارا كتب:”كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقا،لكنني لم أتصور أن الحزن يمكن أن يكون وطنا نسكنه ونتكلم لغته ونحمل جنسيته”.
والتجاني سعيد وصل لمرحلة:”أنا مني ضاع الكلام…ماتت حروف اللقيا قبال أهمسا…لا الجرح أتنسى…”…. ومهما يعبر الإنسان عن أوجاعه وأحزانه لما يشاهده في واقعه الملموس بالسودان أوالمنقول بالقنوات عن ما يجري بغزة ولبنان فإن التعبير يخونه، والكلام يخونه.
يؤجر المرء على محاولاته المستمرة رغم انعدام الشغف وتأخر النتائج، يؤجر على بث الطاقة والأمل في نفوس المحيطين به رغم حاجته لمن يدعمه ويحفزه، يؤجر على ثباته لأن ثمة من يتكئ عليه، يؤجر على الاستماع للآخرين والتهوين من أزماتهم ومحاولة تخفيف أثقالهم، رغم كل ما في صدره من ضيق وتعب، يؤجر على ثباته أمام الناس خوفًا أن يحملهم أثقاله ويؤجر لأنه يذهب إلى الله طالبًا يد العون،ويؤجر على سعيه كل يومه أملًا في تحقيق معجزة تبدل حاله وحياته.
يؤجر المرء على سعيه،على لحظاته الصعبة، على صمته الطويل، يؤجر على ثقته بالله، فرغم انعدام النتائج لكنه يثق بأن كل شيء سيكون على ما يرام.
لذلك نكتب ما يروح عن الناس…نكتب ما ينسيهم ولو للحظات هذه المآسي من قتل وتشريد وحفر بالإبرة وغباء السياسيين، وسفسطة الأكاديميين المرفهين الذين ما زالوا في مرحلة حجوة أم ضبيبينة… وما درى هؤلاء الأحباب أن دور المثقف أو الأكاديمي قد انتهى…لم يعد للمثقفين صوت مسموع…ولم يعد لهم دور في الحياة السياسية فمجلس السيادة “ساديها بطينة وعجينة”.. والجيش والدعم” سادنها بطينة وعجينة”… وكذلك الوزراء والولاة…ولو كانت الدولة تحترم العلماء لاختارت منهم حكومة تكنوقراط… ولاختارت منهم ولاة بدل الضباط الأداريين الذين بدأوا “يا دوب” يتعلمون سفسطة المثقفين لتخدير المواطنين بالأمل وضوء حمدوك في نهاية النفق، وهو الضوء الذي أنطفأ بعد تشييع الإطاري.
إنه لمن الوهم وقصر النظر أن ندلق الحبر في الإبستمولوجيا والسياسيولوجيا لتعليم قطيع من المتقاتلين…ومن الأفضل أن ندلق حبرنا إلتماسات عزاء وبث روح الحياة بين المواطنين…
في الجزيرة كنا نزرع قطنا…نزرع نتيرب، نحقق أملنا، كنا نرى السودان أمنا وأبونا وأختنا وأخونا… كنا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون…كل من أتى الجزيرة رحبت به وصار إبنا لها وأدعى ملكيتها…ولأن الجزيرة أرض الحنان والمحنة فقد غض أهلها الطرف عن ادعاءات حتى الذين أتوها من خارج السودان… لأن حياء وحنية أهل الجزيرة فوق التصور وكأن الله سبحانه وتعالى قد أنزل تسعة أعشار الحنان والرحمة بالجزيرة وخص بهما أهلها… وهؤلاء الطيبون يموتون الآن موت الضان في الخلاء ولا أحد يأبه… لا أحد يتألم لمعاناتهم… لا إغاثات تصلهم غير الطعام المسموم… ولايات بحالها احتل أهلها مدن الجزيرة_لأن أهل الجزيرة مثل أهل المدينة صحابة الرسول يحبون من هاجر إليهم_ والآن لا نقرأ لهم كلمة ولا نسمع لهم صوتا… غادروا الجزيرة مع أول طلقة لجذورهم وينتظرون أن يعودوا مرة أخرى لمدني والحصاحيصا ورفاعة والكاملين والمسيد والحاج عبدالله والحوش…..وحتما سيجدون الكواهلة والشكرية والحلاوين والبطاحين والأحامدة قد انقرضوا
في هذه المحن النازلة على أهل الجزيرة وما يواجهونه من انعدام القوت وغلاء الموجود تكاتف الناس، وتكاتفت بعض القرى وتقاسموا النبقة، وضرب أولاد الجزيرة الحقيقيون من مغتربيها وأغنيائها المثل في الشهامة والايثار…
فللذين استوطنوا الجزيرة والآن تناسوها وباعوها ولم يواسووا أهلها ولو بأضعف الإيمان نذكرهم بكلمات شاعرنا مصطفى حمزة:
نحييك ما بتحينا
خلاص اخترت ناس غيرنا
وهم أغروك تخلينا
بقيت لمن تشوفنا
كمان بتهرب من تلاقينا
كأنك ما عرفتنا يوم
ولا طليت في عينينا
زمان الحال ده ما حالك
ولا طبعك تجافينا
أتاريك كنت خادعنا
سراب موج وغاشينا.
رغم هذه الزعلة التي تعبر عن حال معظم أبناء الجزيرة المثقفين من التقصير الحاصل من أبناء الجزيرة ذوي الجذور من خارجها الذين لزموا الصمت ولم يستنهضوا همم أهلهم لاغاثة الجزيرة إلا أن الأصل في إنسان الجزيرة الإلفة واللهفة والحنية والريد والعذاب، ويظل على المستوى الشخصي مسكونا بالشوق والحنين لمن يعرفهم سواء كان من ناس الجزيرة أو لاغوس أو شندي أو القضارف…والزعل خشم بيوت فهناك زعلة قومية، وهناك زعلة ولائية..وهناك زعلة شخصية ونربأ بهذه الزعلة أن تكون شخصية فكل من أحببناه فإن في القلب مأواه… لذلك نشتاق لأحبابنا الذين هجرتهم الحرب… نتواصل معهم ونسأل عن أحوالهم… فقد كانوا لنا أحبابا وجيرانا وسكنا ووطنا.
طول مفارق حيو يا أخوانا كيف وإزيو
من يوم فراقو ديارنا ما شفنا زي زيو
زولا حنين زي زولنا، حبيب حنين زي زولنا
والله ما بتخلا والحي مصيرو يلاقي طال الزمن أو قلا
يا حليلو شال أفراحنا مسخ علينا الحلة
طول فراقو علينا وعارفينو ما بالأيد
متين، متين يا الله يجينا أجمل ريد؟؟
الدعاء لله أن تقر العيون، وتهدأ القلوب، وتلتقط الروح أنفاسها، أن يسير الأمان بيننا، وتعلو أصوات ضحكاتنا، وتلتئم جروحنا، أن تتوحد صفوفنا، وتحفظ أهلنا.