كيف نتعامل مع القرآن الكريم

أ.د عبدالله محمد الأمين

 

 

“استدعاء القرآن الكريم في إطار واقع عالمي متغير بوعي جديد ضرورة ،وهذه الضرورة تكمن أهميتها في محاولتها تصحيح الكثير من المفاهيم المتعلقة بالتعامل مع القرآن الكريم في الموضوعات الإسلامية،كخطوة أولى يؤسس بموجبها الوعي المنهجي الإسلامي المعاصر.فكيف يمكن التعامل مع القرآن وتدبر آياته والإفادة من معطيات العلوم وآلات فهمها ليكون القرآن مصدر المعرفة وفلسفتها في شعاب العلوم الاجتماعية جميعا؟حيث لابد لنا من العودة إلى القرآن كمصدر لمعارف الحياة وفقه المعرفة والحضارة للقيام بدورنا بمسئولية الشهادة على الناس والقيادة لهم واستئناف السير الذي توقف من عهد بعيد في كثير من شعب المعرفة التي يطرحها القران .

إن من مؤشرات ومعالم بناء الثقافة والفكر القرآني ضرورة فهم أبعاد المنهج المطلوب ،فالرؤية القرآنية رؤية شمولية،إذ أن القرآن يمنح المسلم رؤية كاملة ومنهجا متماسكا يجعل من الحياة خطوطا متوازية لا تصطدم مهما امتد الزمن فتجعل العلم مع الإيمان أو تجعل ما وراء المادة مع المادة ،أو تجعل السرائر الباطنة مع المشاعر الحسية .

وللاغتراف من القرآن برؤية شاملة الأبعاد متعددة المقاصد وليس لاستنباط الحكم الفقهي فقط فإن هناك مناهج تعاملت مع القرآن كمناهج الفقهاء والأصوليين والمفكرين بمدارسهم ومناهجهم المتعددة وعلماء الكلام والمتصوفة وعلماء اللغة الذين تعاملوا مع القرآن كمعجزة بلاغية..

هذه المناهج جاءت كلها كثمرة لواقع معين ومعالجات مرهونة بزمنها فلم تستطع تحقيق الفقه المطلوب لآيات الله وسننه في الأنفس والآفاق ولم تغن العقل المسلم اليوم بالرؤية الشاملة من خلال الواقع والظروف التي نعيشها ،ونحن الأن بحاجة إلى منهج للتحقق الشاملة الموضوعية وليست الموضعية بمعنى أنه لا يمكن دراسة القرآن دراسة تجزيئية ،ذلك أن تعاليم الإسلام نسيج متشابك ملتحم بعضه ببعض.
ومن المؤشرات لبناء الفكر القرآني تأكيد الحاجة لفهم السنن القرآنية،فالسنن الاجتماعية في القرآن هي القوانين المطردة والثابتة التي تشكل إلى حد كبير ميكانيكية الحركة الاجتماعية وتعين على فهمها،وقد تكون حاجة المسلمين اليوم لفهمها وحسن التعامل معها أشد من حاجتهم للحكم.التشريعي الذي تضخم حتى كاد يشمل الإسلام بأبعاده كلها.

هذه السنن لابد أن تأخذ مكانها الصحيح من عقلنا ولابد أن نحترمها ولابد من القضاء على فلسفة الجبر التي عطلت قانون السببية فتخلفنا عن عمارة الأرض وسادت روح التواكل وانطفاء الفاعلية.
إن قضية إدراك السنن الإلهية في الأنفس والآفاق مهمة إذ أنها تحكم شروط النهوض والسقوط الحضاري ،وحسن تسخير هذه السنن والتعامل معها سيمكن الأمة من الانتقال من موقع المعرفة والفكر إلى موقع الفعل…وهذه القضية لم تشكل مناخا عاما يعيشه المجتمع ولم تحفر في واقع الأمة المجرى المطلوب لسيرورتها،وإن إدراك السنن الإلهية هو وسيلتنا للشهود الحضاري،عمارة الأرض والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني.

ومن المؤشرات والمعالم لبناء الفكر القرآني اكتشاف العلاقة بين البعد الايماني والسنن التي تحكم عالم الشهادة إذ تحتاج العلاقة بين البعد الايماني والانجاز الحضاري إلى مزيد من النظر والتأمل وبعض المدارس الحديثة تقرر بأنه لابد من إعادة صياغة المعادلة النفسية والاجتماعية للأمة حتى تصبح قابلة للتطور والانجاز التكنولوجي لأن التكنولوجيا جاءت ثمرة لفلسفة وعقيدة ومعادلة نفسية معينة وبالتالي فلا يمكن أن تتطور في مجتمع عقيدته تغاير أو تختلف عن مجتمع نشوئها.

ومن المؤشرات التي ينبغي استصحابها للتعامل مع القرآن الكريم اشكالية الفهم والإدراك للقرآن الكريم إذ من الواضح أن الطريقة التي يتم بها تعليم القران طريقة عقيمة يصعب معها استحضار واستصحاب التدبر والتفكر والنظر إن لم يكن مستحيلا فالجهد كله ينصرف إلى ضوابط الشكل من أحكام التجويد ومخارج الحروف،فالانسان في الدنيا كلها يقرأ ليتعلم ولكن نحن نتعلم لنقرأ لأن الفهم كله ينصرف إلى حسن الاداء.ولعل من أخطر الإصابات التي لحقت بالعقل المسلم فحالت بينه وبين التحقق بالفكر القرآني والرؤية القرآنية الشاملة واعتماده مصدر للمعرفة والبعث الحضاري التوهم بأن الأبنية الفكرية السابقة التي استمدت من القرآن في العصور الأولى هي نهاية المطاف وأن ادراك أبعاد النص مرتهن بها في كل زمان ومكان وفي هذا محاصرة للنص القرآني وقصر فهمه على عصر معين وعقل محكوم برؤية ذلك العصر،وحجر على العقل وتخويف من التفكر…ومحاصرة الخطاب القرآني تتمثل في القضاء على امتداده وخلوده وقدرته على العطاء المتجدد للزمن ،وإلغاء لبعده المكاني وإلغاء التكليف القرآني من السير في الأرض واستمرار النظر في الأنفس والآفاق.

وكنتيجة للابتعاد عن القرآن الكريم وسيطرة مناخ التقليد الجماعي فقد تحول القرآن إلى نصوص للتبرك ،واختلطت قداسة النص ببشرية التفسير وعد رأي الشيخ المتبوع في تفسير نص ما فهمه هو الأمر الوحيد والممكن والمحتمل مما أدى بالفقيه الحنفي أبو الحسن الكرخي لأن يقول :”كل آية أو حديث تخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ”.

ومن المعلوم أن القرآن رسم المسارات العامة للحياة وبين السنن الإلهية التي تحكمها وجاء بقيم ضابطة للمسيرة البشرية،ودور الإنسان في التعامل مع القرآن الكريم و إدراك مقصده يتمثل في الاجتهاد في تحديد هذه المسارات واكتشاف آفاق تلك السنن قوانين التسخير ووضع البرامج ضمن إطار القيم الضابطة للمسيرة حتى لا تكون الحيدة ولا يكون الخروج،لكن يبقى أن ما يصل إليه الإنسان باجتهاده هو رأي وليس دينا مقدسا ،وإن من الخطأ أن يحدد بعض الناس خطا في الحياة من اجتهاد أحدهم أو البعض ثم يزعمون أن هذا الخط من عند الله،ولقد شاع هذا المسلك بين بعض أتباع المذاهب المتنطعين الذين يحاولون تحجيم النصوص في اجتهاداتهم مع إلغاء اجتهادات الآخرين مما أدى إلى الفرقة وتمزيق وحدة الأمة.ولعل سقوطنا في هذه العلة من علل التدين التي أصابت الأمم السابقة جاءت كنتاج طبيعي لعجزنا من التعامل مع القرآن وعدم إدراكنا لسننه.

إن ما نحتاجه للتعامل مع القرآن هو تصويب مناهج الفكر ووسائل التلقي ،واذا تأملنا ملامح الظاهرة الثقافية التي عليها المسلمون اليوم نجد أن هناك خللا في تلقي القرآن وفي التعامل معه،وهذا الخلل يعود إلى طريقة التدريس وإلى مناهج التربية والتعليم بما فيها مؤسسات تحفيظ القرآن الكريم ذاتها ،وفي مؤسسات كثيرة عاملة في بناء الشخصية المسلمة،فهذا الخلل يمكن معالجته إذا تعاملنا بقانون السببية وهي دليل الوحي عندنا والتي كان إهمالها من أسباب التخلف في مجال الدنيا واعمارها والتواكل في مجال الدنيا والدين.

وقد تكون المشكلة الفكرية اليوم هي أننا نحمل تخلفنا أيضا لمواردنا الثقافية فنفسر ميراثنا الثقافي من خلال واقع التخلف الذي نعيش فيه ونلجأ إلى لون من التفسير المتخلف كنوع من التسويغ للواقع الذي نحن عليه.

إننا نلاحظ في تعاملنا مع القرآن إنقلاب الوسائل إلى غايات ،إذ أبرز البعض الجوانب الفنية وأخذ بالناحية البلاغية حتى كادت أن تكون هي الهدف من أعمالهم مع أنها الوسيلة وأداة التوصيل فانقلبت الوسيلة إلى غاية.

إن كثيرا من العلماء والمفكرين انفصلوا عن الواقع ومتطلباته بسبب من الظروف السياسية وصرفوا جهودهم كلها في استنباط الحكم التشريعي من الآيات دون الوقوف عند الأهداف الكثيرة الأخرى التي جاءت الآيات من أجلها وأنزلت للفت النظر إليها وإدراك أبعادها والتزامها في الحياة فجعلوا الآيات موضوع الدراسة هي آيات الأحكام،والمعروف أن الحكم التشريعي إنما يجي ثمرة للوجود في البناء الإسلامي ،بمعنى أن الحكم التشريعي لا ينشئ المجتمع وانما ينظمه ويحميه ،وأما أن يكون الحكم التشريعي هو الأول والآخر فهذا منهج خاطئ في النظر للقرآن والتعامل معه على أهمية الفقه التشريعي وأهمية معرفة الحلال والحرام.

إن من المهم التأكيد في خاتمة حديثنا أنه لابد من تأسيس منهج العودة للقرآن وأن هذا المنهج يستدعي نزع القدسية عن فهوم البشر لأنها فهوم في ظروف معينة لتنزيل النص القرآني في عصر معين وعلى حالة معينة وقد يتغير العصر ويتغير الفهم فالتراث إذن ليس مقدسا وانما هو فهم بشري قابل للخطأ والصواب.

يستدعي منهج تأسيس العودة للقرآن كذلك إدراك حقيقة جوهرية وهي أن التي نعيشها هي في جوهرها أزمة فكر لا أزمة منهج ،ذلك أن منهجنا كمسلمين تتمثل في القرآن والسنة النبوية ومن الخطورة التسليم بوجود أزمة منهج في وجودهما…ويستدعي منهج العودة كذلك الوقوف أمام العجز الذي تعيشه مؤسسات التربية والتعليم والمؤسسات المسئولة عن التنشئة الاجتماعية للفرد المسلم بحثا عن مكامن الخلل وتصويبا للمسيرة من أجل إخراج الفرد الصالح والمصلح.كما نؤكد أن مؤسسات التعليم الديني ما زالت عاجزة عن أن تعيش ظروف عصرها وقعودها عن إيجاد مناهج تتفهم العصر بما يخدم القضية الإسلامية ” وقال الرسول يا ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا”(الفرقان،اية 3)

————–

*محمد الغزالي وعمر عبيد حسنة: كيف نتعامل مع القرآن،المعهد العالمي للفكر الإسلامي.أمريكا.

الجزيرة اليوم

رئيس التحرير عاصم الأمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى