سرديات
الزاكي عبد الحميد أحمد
قالت سمية: أيها النوبي الفاحم السواد؛ أنت أجمل من هؤلاء *الرجال النساء*..
فكان ما كان!
وصفت الحسناء ذات الحسب والنسب والجمال الفتّاك، عشيقَها النوبيَّ الأسودَ، وهو يساق، مقيَّداً كما البعير، إلى حتفه:
…*وساعتها صرتَ أبهى الرجال..*
*وما زلتَ ابهى الرجال*..
*وأجمل من هؤلاء:*
*شديدي البياض؛*
*شديدي الأنوثة رغم اللحى والشوارب..*
*أجمل من هؤلاء الرجال النساء..*
حققت فضائية *سي إن إن*، عصرئذٍ، سبقاً صحفياً scoop بعرضها على الملأ، كأول قناة إخبارية في العالم، مشهد الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، والذي أعدمته داعش، وهو يتلوى ألماً لحظة اشتعال النار داخل قفصه الحديدي محكم الإغلاق..
وحين فاحت رائحة شواء اللحم البشري من على الشاشة الصغيرة، وكادت تزكم الأنوف، ختم مذيع الأخبار نشرته تلك بعبارة:
This is the most dehumanizing act I have ever seen or heard of and hope not to see or hear of something similar in my life..
هذا أكثر مشهد تتعرى فيه الإنسانية عن قيمها ..لم أر مثله من قبل ولم أسمع به مطلقاً وآمل أن لا أرى أو أسمع عن فعل كهذا في حياتي..
*نسألُ الأحزانَ حلماً..*
*نسألُ التعذيبَ صبراً..*
*نسألُ السجانَ صفحاً..*
*نسألُ الخوفَ الأمانَ..*
هذا *فاروق جويدة* يبحث عن الأمان حين تدْلَهِم الأمور وتُسفِر البشرية عن قبح جبينِها المظلم…
شديدَ العُبُوس قمطريراً، كان…
شديدَ الفتكِ برعاياه..
قاسياً غليظ القلب كان..
هو *عمرو بن هند* ملك الحيرة..
كان حليفا للفرس ويستقوى بهم في قمع رعاياه، تماما كما كان يتحالف الغساسنة في الشام مع الروم لذات الغرض..
وسياسة التحالفات المعيبة تلك، تتشابه إلى حد كبير في مضمونها، مع سياسة القادة العرب في هذا الزمان البئيس، والتي تقوم على تسخير الرعايا والتبع من جهة، والارتماء في احضان الحليف او السيد من جهة أخرى، لتصير العلاقة جدلية بين المهانة والديكتاتورية، وبين الخنوع للحليف الخارجي والظلم والاستبداد للرعايا..
وسُمِّي *عمرو بن هند* أيضاً بالمُحرِّق لأنه احرق من *بني تميم* مئة رجل لانهم قتلوا أخاه سعداً، فاقسم ان يقتل منهم مئة رجل حرقاً بالنار..فغار عليهم ووقع فيهم سحلاً وتقتيلاُ، فحملوا إليه تسعة وتسعين رجلا فرماهم في النار فعلا لهيبُها ودخانُها ظنَّها بدويٌ من *البراجم* نار قِرَى (وليمة) فقصدها وكان جائعا فجيء به إلى عمرو فقال له من تكون؟ فقال الرجل من البراجم وهو لا يعلم بما جرى لقبيلته (والبراجم من أحياء بني تميم ) فقال له عمرو ( *إن الشقيَّ وافدُ البراجم* ) ثم تمّم به المئة ورماه في النار، فصارت مثلا يضربُ لمَن يأتي حتفَه بظلفه!
ثم كان التحريقُ جزاءَ شاعرٍ نوبي ما عرفنا عنه سوى قليل القليل..
وما كان التحريق ليحدث لولا بشرته السوداء التي جعلته في نظر قاتليه اقل منهم شأنا وأرخصُ قيمة!
نوبيَّ البشرة، عربيَّ اللسان، شاعراً مُفْلِقاً كان..
كانت بينهما مودّةٌ، ثمّ فسدتْ، بسبب الاستعلاء العِرقي من عُلِّيَّة القوم..
هي بيضاءُ، وكما السَجنجَلِ مصقولةٌ ترائبُها، وهو اسودُ اللونِ فاحمٌ، خشنٌ ملمسُه، مقلوبةٌ سَحنتُه..
ثم هي سليلةُ اشرافِ القوم وصفوتِهم، وهو عبدٌ قيض له ان يظلّ عبداً ما بقي الزمن..
عبداً وُلِد وعبداً ترعرع وعبداً يظل في قاموس قبيلته ..
لكنه شاعر، فتعلّقت به النساءُ فأخذ يتشبب بهن..وهو ما زاد حنق العشيرة التي اشترتْه بدراهم معدوداتٍ، وحين شاع أمرُ تشبُّبه بنسائِها قررتْ قتله..
ولكن ما هي الطريقة المناسبة التي يقتل بها، هذا العبدُ، حتى تُطفىءَ ما في جوفهم من نار!
أبالنطع والسيف؟ تساءولوا!
قالوا: لا، فدَقُّ العنقِ في عُجالة لن يشفي غليلَنا.
بالشنق إذن يُقتَل، ويترك معلقا ليكون عبرةً وعظةً لغيره؟
قالوا: لا، هذا كسابقه، يعجّل من فنائه ولن يذيقَه ما نريده له من ألم وعذاب..
ما الحيلةُ إذن؟
قالوا: اشعلوا ناراً في حفرةٍ عميقة..
وحين تتلظّى ويصوِّت لهيبُها اقذفوه فيها..هذا يئِدُ غيظَنا من العبد..
هكذا جاء قرار القوم:
*فليُحرق العبدُ حيّاً*!
سيق التعيسُ مقيّداً نحو حتفه، حرقاً بالنار، وهو ينشد:
*شِدّوا وثاقَ العبدِ لا يفلِتَنَّكم*
*إنّ الحياةَ من الممات قريب..*
*هند وسمية والعامرية وعميرة ودعد وعشراتٌ اخريات*، من بنات *أسياده* تشبب بهن، فكان جزاؤه نارٌ تتلظّى..
هذه مأساة *سُحَيْم عبد بني الحسحاس..* كما أتتْنا به الكتب..
و *سُحَيم* تصغير *اسحم* وهو الأسْوَد ومنه الغراب الاسحم لشدة سواد ريشه..
عمداً تجاهلوا اسمَه ولقبّوه ب *سُحَيْم العبد* ما أثار حفيظة الشاعرُ ليثأر لسواد لونه، بعشق البيضاوات من نساء أسياده، ويقول فيهن شعراً اباحياً فاضحاً، يشبه إلى حدٍ بعيد، غزوات مصطفى سعيد على الشقراوات، حفيدات المستعمر العُنجِهي!
مأساة *سُحَيْم العبد* أشعل نارَها في صدر الاسلام، أيامَ الخلافة الراشدة، قومٌ لم تكن جاهليتهم قد تخلت عنهم بعد….
إنها المأساةُ، التي أجاد وصفَها شاعران عربيان معاصران:
اولُهما شاعرُنا الكبير *محمد المكي ابراهيم* الذي ألف مسرحيةً شعريةً، تناول فيها مأساةَ هذا الشاعر النوبي. نشر الجزء الاول من المسرحية الشعرية، خلال الربع الاخير من ستينيات القرن الماضي، كاستهلال لمدلولات *تيار الغابة والصحراء*..
ولكن *شاعر اكتوبر الأخضر* توقف مغاضباً، عن تكملة بقية الأجزاء من المسرحية، بسبب الهجوم الذي تعرض له، من اهل اليمين واهل اليسار، روادُ تيار *الغابة والصحراء* وهو منهم..
وعن ذلك قال ” ..ولم اسلم شخصياً من الأذى، فقد هوجمت عن نشري الجزء الأول من مسرحيتي الشعرية عن *الشاعر النوبي المخضرم سحيم عبد بني الحسحاس* وذلك بصورة افقدتْني الرغبةَ في اكمالها حتى اليوم”..
وثانيهما هو الشاعر السعودي الراحل *غازي القصيبي* الذي اصدر ديوانا يحكي مأساة سُحَيْم..
القصيبي في ملحمته يرتدي قناعَ سُحيم، يتقمص شخصيتَه، يعيش تجربتَه المريرة، ويستعينُ بأبياتٍ جميلةٍ وجريئةٍ من ديوانه ويكتب باسمه..
يستهل القصيبي قصيدته قائلاً:
*يعودون بعد قليل،*
*زمان يطول ويقصُر،*
*لكن يعودون كي*
*يقذفوني في النار..*
وهذا المطلع يسترجعه القصيبي أكثر من مرة، دلالةً على هاجس الموت بالنار، اقسى انواع القتل..
ثم يمضي القصيبي واصفا المشهد القاسي:
*ها هو ذا الجمع يصخب حولي،*
*تخُرُّ الحجارةُ من كل صوبٍ،*
*تقترب النار،*
*أشعر بالوخز،*
*الحرائق في قدمي،*
*ثم تعلو وتعلو،*
*أُسحَبُ كالحبل بالحبل*
*أترك فوق اللهيب..*
ويقرّب القصيبي الصورةَ أكثر للقارىء، حين يصفُ تلك اللحظات المأسوية، وصفا دقيقاً، حتى ليجعلَ سُحَيْم يشمُّ رائحةَ جسدِه المحترق:
*أفيق، ارى بعض جسمي دخانا،*
*أشم الشواءَ وأغفو،*
*أفيق واغفو..*
ورغم ما يقاسي من عذاباتٍ في تلك الحالة، يريد القصيبي لشاعره العاشق، ان يمجّد الشعرَ الذي كان له خير سند:
*يا بورك الشعر*
*يلسع كالنار*
*يحرق كالنار..*
وحينها، وكماردٍ اندفع من قمقمه، تتفجّرُ حروفُ الشعرِ، وتصبحُ عاصفةً من لهبٍ تلفحُ نارَ الأعداءِ، فتطفئُها، والشعرُ وحدُه يبقى، عندما تذوي كل الحرائق..
حين ظهرت الترجمة الفرنسية لهذه الملحمة الشعرية، للشاعر السعودي الراحل، قال عنها نقاد الادب الغربي، إنها قصيدةٌ ملحميةٌ، ترقى إلى مصاف شعر الزنوجة التي ابتدعها *الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سنغور وايمي سيزار* وتتبوأ مكانتَها بثقةٍ في الشعر العالمي، الذي استوحى أحوال العبودية قديما وحديثا. فالقصيبي استعاد حكاية *سحيم* وجعل منه انموذجاً انسانياً يخاطبُ البشريةَ جمعاء، ورمزاً للتحرر من الظلم، الذي لحق ب *سحيم* بوصفه عبداً أسود..
فرادةُ *سحيم* تكمنُ في احترافِه الشعرَ، تحدياً لعشيرتِه بني الحسحاس، وانتقاماً لنفسِه من نزعتِها العنصرية، متخذاً صورةَ العاشقِ، الشديدِ الذكورةِ، الذي اجتذب إليه، قلوبَ فتيات العشيرة، فتشبّب بهن، وأنشدهنّ أجمل القصائد وأشدَّها اباحيةً، مما زاد في اضطهاده، وصولاً إلى الحكم باحراقه حياً..
واستطاع الشاعر القصيبي في ملحمته، أن يحرّرَ العبدَ سُحيم، من هويته العربية، ليجعلَه رمزاً لشريحة هائلة، من البشر الذين اُضطهِدوا عرقياً او عنصرياً، جراء سوادِ بشرتِهم..
غازي القصيبي، في ملحمته، يفسحُ المجالَ للشاعر النوبي، لكي يرويَ مأساتَه، ويوردَ تفاصيل الساعات الأخيرة من حياته، قبل مواجهة الموت حرقاً..
ما يشد الانتباه في قصيدة *القصيبي* انها جعلت *سحيم العبد* معشوقا من قبل نساء العشيرة ..
فها هي *سمية* – احدى عشيقاته، تسميه *الغراب الاسحم*:
*كانت سمية اول بنت تحب الغراب،*
*واول بنت تقول غراب وسيم وسيم*
*وساعتَها صرتَ ابهى الرجال،*
*وما زلتَ ابهى الرجال،*
*وأجمل من هؤلاء،*
*شديدي البياض،*
*شديدي الانوثة رغم اللحى والشوارب..*
*اجمل من هؤلاء الرجال النساء…*
هكذا يمضي القصيبي في دفاعِه عن سُحيم، على لسان احدى عشيقاته البيضاوات..
ثم يشعر العبدُ بوخزة دونيته، التي فرضتْها عليه حمية قبيلته فيتساءل القصيبي على لسانه:
أيمكن أن يكونَ للعبدِ دمٌ كدمِ الاحرار:
*أننزفُ نحن العبيدُ دماً،*
*ام هو الحبرُ أسودٌ في لونِ سَحْنتِنا*..!
أما المسرحيةُ الشعريةُ، التي كتبها شاعرُنا محمد المكي ابراهيم، عن *سُحَيْم* فلم اطّلع عليها، ولكني حُظيتُ قبل سنوات، بحضور امسيةٍ ثقافيةٍ، في النادي النوبي، في الخرطوم، تطرّقَ فيها الشاعرُ إلى اشكاليةِ الهويةِ السودانية، الافروعربية، من خلال استعراضِ مأساةِ الشاعر النوبي، سُحيم عبد بني الحسحاس، على عُجالة…واطلق عليه شاعرُنا لقبَ النوبي، باعتبار ما كانت عليه بلاد النوبة من توسع وانتشار، امتدَّ حتى بلاد الحبشة والصومال وارتيريا وغيرها…
تحياتي