قصة قصيرة.. الموت في زمن الحرب

بقلم: ريم عثمان

حماس الاولاد للسفر خارج البلاد والهروب من جحيم الأوضاع السيئة للحرب في بلادنا اجبرنا على اتخاذ القرار .. لم نفق بعد من صدمة فقد والدهم منذ عامين في حادث سير .. تواصلت مع أهلي المتواجدين في تلك البلاد المجاورة .. سيقومون بالتجهيزات الخاصة بالسكن .. بل وسيهتمون بكل التفاصيل .. حتى الصغيرة منها .. والأهم أنهم سيسعون لتسهيل تسجيلهم في الجامعات والمدارس هناك لتكملة دراستهم وضمان مستقبل أفضل لهم ..
لم يكن أمامنا سوى ترتيب اوضاعنا في تلك المدينة التي نزحنا إليها ثم التوجه لمكان السفر ..
ما من مجال ليكون السفر قانونياً .. سنضطر لمخالفة القانون وقد حافظنا عليه طيلة حياتنا .. انها مقتضيات الحرب ..
نصائح من سبقوني ساعدتني في الترتيب لهذه الرحلة الشاقة التي تنتظرني واولادي .. حملنا متاعاً خفيفاً .. الحمل الثقيل كان في أرواحنا ..
عندما انتصف النهار اقلتنا عربة هايلوكس بكابينة واحدة .. جلسنا جميعاً في الخلف .. انا واولادي الخمسة .. أكبرهم في الخامسة والعشرين وأصغرهم لم يتجاوز العاشرة من عمره .. كان بصحبتنا مجموعة كبيرة من المسافرين .. الجو كان حاراً ..لكن أوضاع الحرب كانت أكثر حرارة مما جعل الجميع يحتمل ..
ارهاق السفر زادت صعوبته مع التزايد المخيف لدرجات الحرارة كلما توغلنا في الصحراء .. عانينا من وعورة الطريق والعربة تمضي مسرعة غير آبهة بالمسافرين .. أكتفى السائق ومساعده بربط كل المسافرين بالحبال لتفادي سقوطهم .. حذرونا بأنهم في بعض الأماكن لن يتوقفوا أبداً حتى ولو سقط الجميع .. طلبوا أن نتمسك جيداً .. لم يكن مسموحاً لأحد من المسافرين أن يركب بجوار السائق .. هو ومساعده فقط .. بجوارنا قبع برميلان مليئان بالوقود وآخر به ماء ملوث بالوقود .. فالخرطوم الذي يسحب به الوقود هو نفسه الذي تسحب به المياه عند الحاجة .. قد حذرنا من سافر قبلنا من ذلك .. لم يكن أمامنا إلا حمل العديد من قوارير المياه .. درجة الحرارة جعلتها ساخنة للدرجة التي اضطررت فيها لمحاولة تبريدها بسكبها في قارورة أخري وإعادتها لعدة مرات حتى تصبح درجة حرارتها معقولة فيتسنى لنا شربها ..
مضى اليوم الاول بكل رهقه وقد توقف السائق لمرة واحدة فقط سمح لنا فيها بالنزول قليلاً ثم واصل مشواره ..
في نهار اليوم الثاني والشمس تضرب بأشعتها القوية على الرؤوس بضراوة .. أصبح جسم العربة ملتهباً حتى أن الراكب لا يستطيع لمسه دون أن يضع عازل، غالبية الركاب بدوا في فقد تركيزهم وتعبوا كثيراً .. خاصةً أولئك الذين يجلسون على الحواف .. سائق العربة لا يكترث لشيء إلا مواصلة المشوار سعياً للوصول بأمان متجنباً (حرس الحدود) ..
لم يحتمل ابناي الصغيران شدة الحرارة .. أصابهما الاعياء الشديد طيلة الرحلة .. في المساء فقدا النطق والحركة .. الأكبر كان في الثانية عشر من عمره .. لم يبدو وضعهما طبيعياً .. أصابني الهلع .. كل من حولي حاول طمأنتى .. عندما طلبت من السائق أن يتوقف حاول أن يتماطل .. لم يتركه الركاب الآخرون واضطر للتوقف .. حملوا الصغيرين واسجوهما على الأرض .. غطى الأسي على الوجوه بعد أن فحصهم السائق وأخبرنا بأنهما قد فارقا الحياة .. انا لم اصدق أنهما بلا روح .. اقتربت منهما بلهفة .. كيف له أن يقرر ذلك .. هو ليس بطبيب .. أخبرني بأن الكثيرين قد فقدوا ارواحهم على هذا الطريق وهو بات يعرف الموت جيداً .. بدأت فى الصراخ رافضة التسليم بذلك .. ولو مات الجميع .. لن يموت ابناي .. هما متعبان فقط .. حاول الجميع مواساتي .. احتضنني ابني وهو يبكي محاولاً تهدئتي .. لا يستوعب عقلي أنهم قد قرروا دفن ابناي في الصحراء .. كنت أنظر لهم وهم يقومون بذلك .. لم أعد أصرخ ..
بعد تحركنا وضعني أبني الاكبر بجانبه ومن الجانب الآخر كانت ابنتي الوحيدة .. أبني الأوسط كان متعباً بشدة .. اجلسته أمامي ووضعت رأسه على حجري .. حاولت أن أسقيه بعض قطرات من المياه بعد تبريدها لكن لم يدخل إلى جوفه إلا القليل وتدفق الباقي على جانبي فمه .. كنت أحس بتعبه واحاول التخفيف عنه .. طلب مني أن اطفئ الضوء الذي اشعلته ..كان يهذي .. أصر كثيراً بأني أشعل ضوءً يمنعه أن ينام وهو يحتاج بشده للنوم .. هدأ قليلاً .. ثم لم يعد يحرك ساكناً .. لم يجرؤ عقلي على أن يصدق شئياً سوى أنه قد خلد للنوم ..
توقف السائق للراحة بعد عدة ساعات من تحركنا بعد دفن ابناي الصغيرين .. عندما بدأنا في النزول .. لم يستيقظ ابني الأوسط .. حاول البعض أن ينزله من العربة لكنه سقط على الأرض الملتهبة من السخونة ولم يبد أي رد فعل .. اقترب أحدهم وفحصه ليخبرني أنه قد مات ..
انا لا استوعب شئياً .. أراهم يحفرون قبره ويقومون بدفنه دون أن يرف لي جفن .. كنت بلا حراك .. روحاً وجسداً .. أحتضن ابنتي .. لم يتبقى لي غيرها وأخيها ..
تذكرت الضوء الذي تحدث عنه ومنعه أن ينام .. ليتني كنت أملكه حقاً كي أجعله لا ينام تلك النومة التي لم يقم بعدها ..
بعد أن تحركنا بساعات وصلنا المدينة التي نقصدها تاركين في جوف الصحراء من خلفنا بعضاً من حياتي .. وكل روحي ..
كنا متعبين جداً فخلدت وأبنتي إلى النوم ولم يغمض لأبني الأكبر جفناً .. كان متألماً باكياً فقدان اخوته .. قد تحمل مسؤوليتهم بعد موت والده .. أخبرني وهو يدفن أخاه الأوسط أنه يحس بأنه قد فرط في أمانة والده وأنه يحس بالتقصير .. كان الألم والحسرة تملأنه وكنت بلا احساس ..
عندما افقت بعد عدة ساعات بدأ ابني الأكبر يستسلم لتعبه من ضربة الشمس ويستجيب لحالة اليأس من الحياة التي انتابته .. حاولت التواصل مع اقربائي ليحضروا لنا طبيباً في الغرفة التي نزلنا فيها .. لم يسعف الوقت .. أبني لم يحتمل وأختار أن يلحق بأخوته .. في صمت وهدوء استسلم للموت .. وذهب ..
تركني جثة هامدة ..
دفنوا ابنائي ولم يدفنوني .. يرونني اتحرك واتحدث واتنفس واحمد الله على مصابي .. لا يعلمون أني بلا روح .. لا يعلمون بأني أعيش هناك في الأعلى يحاوطني ابنائي .. أجسادنا مشتتة وأرواحنا محلقة في السماء بجانب بعضنا البعض .. لا يعلمون بأن جسدي صامد ليبقى بجانب ابنتي التي فقدت أمانها في تلك الرحلة المقيتة ولم يبقي لها سواي ..
الجميع يقول بأني صابرة .. وانا صابرة .. لأني ببساطة لم افارقهم .. أنا معهم ..
علمنا بأن غالبية الرحلات التي مرت بهذا الطريق قد فقدت الكثير من ركابها بل وان بعضهم لا يزال مفقوداً ..
الهروب من الموت في زمن الحرب لا يجدي حين تقفل في وجهك الأبواب .. لن يتوقف الهروب .. لكن الأبواب يمكن أن تفتح .. حينها ربما .. ربما استطعنا مواجهة المزيد منه ..
الحرب هزمتنا وشردتنا .. ثم قتلتنا .. سنمنح أنفسنا السلام ما استطعنا .. لا نملك إلا أن نفعل ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى