إمام العربيّة الحبر يوسف نور الدايم في رحاب الله

د.أسامة الأشقر

 

 

كان رجلاً فارع الطول مهيباً عريض المكبين، يطلّ عليك بوجهه الممتلئ الأسمر ولحيته البيضاء المنسدلة بأناقةٍ على جانبي وجهه الباسم، وبثوبه الأبيض اللامع، وعمامته البيضاء المدوّرة على رأسه المعجون بالعلم.

 

 

رحل اليوم الأحد 19 نوفمبر 2023 أستاذنا الثمانينيّ الذي كنا ننتظره محاضرته بحبّ، لدماثة خلقه، وطراوة مَلْقاه، وحُسن تأتِّيه لطلابه، وترحيبه المرِح، وتواضعه الجمّ.

 

 

وما دخلتُ عليه مكتبه إلا قام لي هاشّاً باشّاً معانِقاً، وتحضر ضيافتي الحلوة فوراً عند دخولي إليه، وكان كل من يدخل إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الخرطوم سيلتفت إلى مكتبه الذي كان في أول القسم إلى يسار الداخل إليه؛ كما كنا نزوره في بيته القديم بحي الصقور القديم في الموردة بأم درمان فنجد عنده أكرم الحفاوة وجميل القِرَى.

وهو أحد القلائل النادرين الذين يصحّ وصفهم بأنهم أئمة اللغة وأركانها في عصرنا الحديث.

 

 

وقد كان سبباً في انخراطي في التدريس الجامعيّ فرشّحني بقوة لأدرِّس في كلية الآداب بجامعة الخرطوم قبل سنوات من تعييني الرسمي في إدارة مطلوبات الجامعة فيها، وناضل من أجل إدخالي فيها، إذ ظنّ أنني من أهلها المخلصين الحاملين لرايتها، وكان مناقِشي الداخلي في الماجستير والدكتوراه.

 

ولا أنسى أنّه اقترح على فريق المناقشة في الدكتوراه أن يجعلوا مدخلهم في اكتشاف أهليّتي واستحقاقي للدرجة أن أشرح لهم مواضع يختارونها من كتاب الله بالاعتماد على الأنماط الصوتية فيها.

ولد أستاذنا في ريف أم درمان الشمالي بولاية الخرطوم في قرية السروراب عام 1940م، وكان يشرح لنا عن دلالة الألف والباء في تسمية قريتهم بأنها لاحقةٌ تدل على النسب في لغة قبائل البجا القديمة، وهي بمثابة الياء المشددة، وكان والده حافظاً لكتاب الله وشاعراً فورث ابنه الحبر عنه هذا، وفتح الله عليه، ففاقه.

 

انتمى مبكّراً إلى دعوة الإخوان وهو في المرحلة الثانوية، والتقى بنفر منهم تحت شجرة الإخوان في وادي سيدنا بأم درمان، وتعلّق بهم حتى صار مراقباً عاماً لهم، ومثّلهم تحت قبة البرلمان، ورأَس لجنة التعليم فيه.

 

 

كان كثير الحفظ لقصائد العرب الجاهلية والإسلامية، وكان يتلوها بطريقة محبّبة مُطْرِبة تشدّنا إليه وتجعلنا نجاريه في الحفظ والتلاوة.

 

ولا تكاد تجد موقفاً إلا ويجد له شاهداً من الشعر يناسبه، لسعة حفظه.

ولأستاذنا الحبر ديوان شعر مطبوع بعنوان (أنفاس القريض) يحتوي على خمسة وعشرين قصيدة على نمط القصيد القديم في أسلوبه وألفاظه وتراكيبه وأخيلته وإيقاعه، وحسبك أن تقرأ بكائيّة التي يغالب فيها فاجعة الحزن بالتجلّد والتصبر يرثي ابنه عزّام الذي غرق في النيل:

أملٌ تبدّد فاستحال سرابا … مِنَنٌ كذبْنَ، وكُنّ قبلُ عذابا

وهو يقرض الشعر الشعبي ويقول فيه الغزل والرثاء والهجاء، ويحفظ من قصائد الحقيبة، ويغنّيها أحياناً.

 

 

وقد كنا مع طلبة الدراسات العليا في جامعة الخرطوم نتلقى عنه مادة الدراسات اللغوية التي كان يحب أن يجعلها في دراسة النص القرآنيّ.

 

 

،وكنا نذهب معه إلى أستاذه البروفيسور عبد الله الطيب رئيس مجمع اللغة العربية فنكون في فخر المجالس وأطيبِها جنَىً، وكان البروف الطيب يحبّه، ويشير إليه بأنه خليفته، كما كان أساتذة قسم اللغة العربية الكبار يُجلّونه، ومنهم أستاذنا العالم المتمكِّن بابكر البدوي دوشين رحمه الله الذي كان يحكي عنه كثيراً أثناء دراستنا عليه في المدينة المنورة قبل أن نلقاه.

 

 

وكنّا نحب أن نسمع خطبه في جامع الحضراب في شمبات بمنطقة بحري كما نحب أن نسمع حلقات برنامجه الإذاعي “سحر البيان” كل جمعة، وتأويلاته الحسنة لكتاب الله في برنامج التفسير، وفي حلقاته التلفزيونية الماتعة التي كل يُطلّ منها على جمهوره.

 

 

كان من المتفوقين في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، وأحد مَن نال مرتبة الشرف الأولى في البكالوريوس، وابتعثته الجامعة إلى جامعة أدنبره بأكستلنده لينال الدكتوراه فيها، وكثيراً ما حدّثنا عن زملاء بعثته أستاذنا البروفيسور عون الشريف قاسم، وبروفيسور حسن الشيخ الفاتح قريب الله، و بروف ناصر السيد، وبروف جعفر النوراني.

 

وحدثنا عن زملاء الحركة في الجامعة أستاذنا الدكتور مجذوب سالم البرّ، والقانوني الضليع الدكتور حافظ الشيخ الزاكي، والاقتصادي اللامع عبد الله حسن أحمد… رحمهم الله، ولا يخلو مجلسه من الفائدة والطرفة، ولا تملّ من طول الصمت وأنت تستمع إليه وهو يتدفّق بياناً وحكمةً.

 

 

كان رحمه الله رجلاً مبدئيّاً واحد الموقف، ولا يحب ألاعيب السياسة ولا المناورات فيها، وهو معروف بثباته في اختياراته وانحيازاته، مؤمناً بالشورى والديمقراطية، وكان خالص الانتماء لمدرسته الفكريّة وطريقتها.

 

ولم يكن داعية عنف رغم التزامه هذا، ولا يقبل ظلم أحد أو التجاوز فيه من أي أحد، ويقول: “بيننا وبينهم مِلح ومُلاح”، وكان يميل إلى العمل الاجتماعي والثقافي والتربويّ.

كان يحب فلسطين جداً، ويحب رجالها، ويحتفي جدّاً بلقائهم، ولا يكاد يلقاني إلا سأل عنهم واحداً واحداً، واستمع بحرص إلى ما يستجدّ من أخبارها، ولطالما كان قريباً من أي عمل يختص بها، وداعماً ومسانداً.

 

برحيل أستاذنا الحبر نكون قد فقدنا بركةً من بركات العربية، وانهدّ ركنٌ من أركانها، ولا أظنّ أن التعويض سهلٌ أو قريب.

 

رحم الله مولانا وأستاذنا البروفيسور الحبر يوسف نور الدايم، وأسبغ على أبنائه وبناته وأهله الصبر والرضا والسلوان، وأعظم أجرهم، وأحسن عزاءهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى